
العارف بالله هو ذاك الوليّ ذو المشهد الربّاني، وهو من أهل الكمال الذين صفوا من الكدر، واستوى عندهم الجلال والجمال، فتراهم يعرفون ربهم في مختلف تجلّياته، ودليله من كتاب الله قوله تعالى:(وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) فلمّا له عرفوا، لربوبيته شهدوا، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: (من عرف نفسه عرف ربه)..
وعندما نذكر المشهد الرباني فنحن نذكر اثنين الربّ والمربوب، فالعارف يشهد الحقّ من حيث نفسه بدئاً، ويشهده من حيث الربوبية وتجليها انتهاءً، فيرى حاله بأنه الضعيف المنكسر الذليل الفقير وغيرها من الأوصاف النفسية وفي المقابل يشهده من حيث أنه أمام رب عظيم جليل كبير عزيز قوي غني.. وهكذا..
فالمعرفة صفاء نفسٍ وشهود ربٍ.. فهي من هذا المنطلق طرفان..
فيظلّ العارف بالله يفرّ من شهود نفسه إلى شهود صفات ربه حتى لا تبقى لنفسه عند الشهود بقيّة، فتعلو همّته بالقرب من مولاه فيخرج إلى فضاء الأحدية، وهكذا إلى أن يشرف على حضرات العلم بالله.. وهنا يصبح عالماً بالله..
أمّا العالم بالله، فهو من له مشهد إلهي، وهنا يكون الفرق بين المشهدين، وهذا أعلى وأعظم، وإذا ذكرنا العلماء بالله فهم الصديقون، وهم آحاد من الخلق.. وهم أهل التوحيد والتفريد الصافيين الخالصين..
فالمشهد الإلهي له من الشهود الاسم (الله) وهي تجليات الأحدية والواحدية والصمدانية والفردية والوترية..... ولن نتكلم في هذه الحضرات ومشاهدها، لأنها ليست موضوع النقاش، ولكننا نوضح من هو العالم بالله..
فالعلم بالله هو شدة القرب حتى لا يشهد سواه سبحانه، وهذا القرب شديدٌ تجلّيه، عظيمةٌ أحواله، يفتتحونه بشهود الكبرياء، وله هيبة في القلوب، يقول تعالى: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء)..
فانظر كيف قرن العلم بالاسم (الله) بينما قرن المعرفة بالاسم (الرب) (من عرف نفسه عرف ربه)، وانظر كذلك كيف أنه عندما تكلم عن المعرفة فقد قدّم النفس وأخّر (الرب)، بينما عندما تكلّم عن العلم قدّم (الله) وأخّر ذكرهم -أي العلماء-
فالعلماء بالله قدّموا الله على كلّ شيء، فلم يروا سواه سبحانه في قلوبهم.. وهم يرونه سبحانه قبل كلّ شيء، فلو حلّ بهم شيء فمددهم منه سبحانه وحده، لا يمدّهم سواه، حتى أنهم يستمدّون من جميع أسمائه فملجؤهم ذاتيّ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: (لو أنّ لي بكم قوةً أو آوي إلى ركنٍ شديد) عن سيدنا لوط عليه السلام: (رحم الله أخي لوطا, لقد كان يأوي إلى ركن شديد) يعني الله سبحانه..
فالعلماء بالله ذاقوا طعم التوحيد فلم يسكنوا إلاّ معه سبحانه.. فالعالم متزلزل تحت قهر الألوهية، خاشع خاضع، يخاف سطوة الجبار.. يشهد العزّة الإلهية، عاشق لمولاه، لا يأمن مكره، ولا يقنط من رحمته..
جعلنا الله وجميع أخواننا من أوليائه الصالحين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون..
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين