
لا أشقى من عبد يقول: (يا الله)، فإذا ما عرضت له الدنيا سارع إليها؛ يجمع منها ذات اليمين وذات الشمال حلالاً وحراماً لا يأبه من ذلك بشيء. ألا إن الدنيا تفتن الكلّ، ألا إن الدنيا أشدّ من تتعرض لهم هم أهل الآخرة لتزيغ قلوب فريقاً منهم.
فاملكوا الدنيا ولا تملكنّكم، واستعمروها ولا تفتننكم، واجعلوها وما فيها هبةً لله ربّ العالمين، فإنها متاع زائل، ولا غنى فيها إلاّ بالأعمال الصالحة وحب الخير. واعلموا أن الناس فهموا أن الزهد في الدنيا هو تركها وترك عمارتها، فقد عزلوا أنفسهم وتركوا الشيطان وأهله يعيثون في الأرض فساداً ولا رادّ لهم.
ألا إنّ فتنة الدنيا هي التباهي والتفاخر واتباع اللهو والشهوات وحب الجاه والتكبر على عباد الله بأكل أموال الناس بالباطل وظلم وفساد، فأيما أصبت من ذلك فقد أصبت الدنيا. وإنه قد قضى الله قضاءً قبل أن يخلق السموات والأرض أنّ كلّ من قرب من الدنيا تباعد من الآخرة بقدر ما قرب منها؛ فإنّ الدنيا والآخرة لا يجتمعان أبداً.
وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يخشَ على أمته الفقر بل خشي عليهم أن تنفتح لهم الدنيا فتصيبهم في قلوبهم، وليس أشدّ فتكاً بالمرء من أن تصيبه الدنيا في قلبه؛ فإنّ ذلك هو باب الهمّ والغمّ.
وإني قد رأيت خلقاً كثيراً إذا فتح الله لهم شيئاً من الدنيا أخذوا يتغطرسون ويتكبرون ويتعالون على خلق الله ويحتقرون الضعيف (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)، ألا فبشر هؤلاء بفقر لا ينقطع وهمّ لا يزول وانكسار وذلّ ولو بعد حين.
إنّ الدنيا واجبٌ عمارتها بالخير والإحسان والرحمة لخلق الله، فعلى المسلم الفطن أن يطوّر نفسه ويتحصّن بالعلم فهو خير سلاح، وما ساد قومٌ إلاّ بالعلم؛ فالعلم يصنع الرجال ويصنع البلاد ويصنع القوة ويصنع كلّ شيء، ومن أراد أن يتدبّر فليتدبّر قوله تعالى: (وإذا قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون) فبدأ الآية بنفسه وبقوله وختمها بنفسه وبقوله، وبدأها بالخلافة الإنسانية وختمها بالعلم، فلا تتحقق الخلافة الإنسانية إلا بالعلم.. ولهذا فقد كان طلب العلم فريضة على الجميع، وأيم الله ألا إن العلم لا يقتصر فقط على علوم الدين، بل على علوم الدنيا، فإن علوم الدنيا هي التي تعطي الرفعة في الأرض فلو امتلك المسلمون العلم ارتفع اسم الله في الأرض (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).
وأختم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وعالم ومتعلّم)..
أسأل الله أن يزيدنا وإياكم علماً، وهو يقول الحق وهو الهادي إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..