
يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّموات وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)
فقد أخبرنا سبحانه عن خصوصية تلك الأشهر الأربعة وعظمها عنده سبحانه لأنه هو من عيّن حرمتها وكتبها عنده عظيمة كريمة، فتداول الأنبياء حرمتها وتعارفت على ذلك بنو البشر، فلا قتال فيها ولا أذى. وسرّ عظمتها هو عظم فريضة الحج في ذي الحجة، فكانت أماناً لقاصد البيت الحرام في ترحاله ذاهباً أو عائداً.. ولا تقتصر الحرمة على القتال فقط بل على ظلم النفس بالذنوب، فقد قال سبحانه بعدها: (فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم) أي لا تقترفوا ما حرّم الله من الإثم لأنها أشهر حرّم الله فيها الأذى والجهل والأذى.. فحرمتها من حرمة الحق (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) وتعظيمها علامة صلاح القلب، يقول تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)..
فرجب التفريد وذو القعدة التجريد وذو الحجة التوحيد ومحرم التجديد.. فاختصّ شهر رجب بالتفريد لأن التفريد هو السبق إلى الله سبحانه فصاحب هذا المشهد لا يشهد إلا الله في قلبه، فالتفريد سبق وأصله جذب القلب وعجلته إلى الرب (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى. قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي. وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، ولهذا فقد انفصل رجب عن غيره من الأشهر الحرم؛ لأن حضرة التفريد هي غيبة عن الأغيار وتوجه سريع إلى الله وحده وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلّم: (سبق المفرّدون). ومن هذا المقام حظي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بجذبة الحق إليه ليلة المعراج وأكرمه بوصال القرب وأدناه وأفاض عليه من لذة الأنس..
أما ذو القعدة فهو تجريد السوى والتخلية عن الأغيار، وذو الحجة فهو التوحيد والقصد إلى الواحد القهّار، والمحرّم هو عودة القلب كيوم وُلد، فكان تجديدأً للعهد ولهذا ابتدأت به الأعوام، وتجددت فيه النيّات وكان في الفضل بعد رمضان لأن رمضان شهر المغفرة العظمى والعتق ومحرّم هو شهر الصفاء والنقاء..
إنّ من أخصّ أحوال العارفين في هذا شهر رجب الفرد هو إجلال الله بحيث لا يكون في القلب سواه، ولسان حالهم فيه (إلهي أنت مقصودى ورضاك مطلوبي) وهجيرهم هو اسمه الأعظم (الله)، فقلوبهم إليه منجذبة لأنها غير متعلقة بسواه، وهنا تحقق لهم شهود الفردانية.. ومن هنا عُرف الأفراد، وهم الذين طاشت قلوبهم في جماله وتحققت أرواحهم بوصاله، فرجب ثلاثة أحرف: راء الرجاء وجيم الجمال وباء البهاء، وهذه الثلاثة هي أجلّ مشاهد المخلصين في هذا الشهر..
اللهمّ بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، وأجعلنا ممّن يستمعون الحق فيتبعون أحسنه، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين..