أصل أسباب السعادة أمران: سلامة القلب وهداية العقل.. وذلك أن القلب هو الذي يورث المحبة والرحمة والشفقة على الخلق والتوكل والصبر والشكر والرضا.. أما العقل فإنه هو الذي يورث الحكمة والصواب والعمل الصالح والإصلاح في الأرض. فكلاهما أساس الفلاح في الآخرة؛ ولهذا فإن خير الزاد التقوى التي محلّها القلب، وخير زاد العقل الحكمة التي محلها العقل، وإن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.. وبهما تتم النعمة ويكمل الإيمان..
وذلك أن كلّ عمل إمّا أن يثمر نوراً أم أجوراً.. وذلك إذا كان العمل صالحاً فإن الله سبحانه يكافئ صاحبه بالحسنات فإن وافقه عمل القلب من الخشية والخشوع وغيرهما فإن الله يكافئ صاحبه بالنور والأجور سوياً. وإن الأجور تصبح نعماً حسية في الجنة كالقصور والأشجار وغيرها.. أمّا النور فإنه يتحوّل إلى درجات في الجنة، فكلٌّ بحسب نوره.. أمّا أعمال الروح والسر، من الحضور والمناجاة والشهود فإنها تكون قرباً من الله يوم القيامة، وهذه النعمة الكبرى التي لا يوافقها نعمة، وبها تكون درجة لذة النظر إلى وجهه الكريم..
والقلب أساس في ذلك كله، فإن نور القلب زاد الروح، فلا يكون المرء من جلساء الحق على بساط الشهود وقلبه غير عامر بالنور.. وكلما عظم نوره في قلبه كلما طالت مجالسته وعظمت فكرته، فإن أكابر الأولياء هم أهل مناجاة ومشاهدة (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)؛ لأن حضور القلب سبب في مشاهدة السرّ، وأنوار التجلّي تفتح أبواب القرب والمناجاة، فمنهم من حاله المحادثة ومنهم من حاله المسامرة ومنهم من حاله التوقير والتعظيم ومنهم من حالة المؤانسة ومنهم من حالة السكون والخشية ومنهم من حالة التسبيح ومنهم من حاله الدهش والبهت، وهكذا..
وسلامة القلب يقابلها فساد القلب المشار إليه بقوله: (غير المغضوب عليهم) وهداية العقل يقابلها الجهل والحمق المشار إليهما بقوله: (ولا الضالين)، لذا فإن طهارة هذين المركبين وتزكيتهما سبب عظيم من أسباب السعادة في الدارين، فبهما تنجح المقاصد وتنال المراتب، لأن صفات القلب يصنعها الإيمان، وصفات العقل يقررها العمل، وإن سلامة القلب تزيل الهم لأنها تقتضي الرضا والتسليم لله جلّ قدره وإن هداية العقل تقتضي تحقيق الأهداف ونجاح المقاصد، وبكليهما تتحقق السعادة..
والله الهادي إلى سواء السبيل..