
يقول المولى سبحانه وتعالى: (ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين).
إنّ المولى سبحانه وتعالى قد بيّن لنا في هذه الآية الكريمة خمس حاجات إنسانية يشترك فيها بنو البشر، وهي تلك التي يسعى لها كل فرد سواء على الصعيد الشخصي أم المجتمعي.
وهذه الحاجات الخمسة هي بالترتيب: الأمان، والحاجة إلى البقاء كالأكل والشرب، والحاجة إلى المال، والحاجة إلى التطور ويُقصد بها الاستمرارية، وأخيراً الحاجة إلى تحقيق الذات والأهداف.. فهذه الخمس يحتاجها البشر ولكن بدرجات متفاوتة..
ولو تأملنا الآية الكريمة فإننا سنجد أنه سبحانه قد قسّم هذه الحاجات إلى قسمين أساسيين فجعل القسم الأول يتكوّن من (الخوف والجوع) أي الأمان والمأكل والمشرب والقسم الثاني (الأموال والأنفس والثمرات) وكما ذكرنا فهي الحاجة إلى المال والتطور وتحقيق الذات.
وقد ذكر القسم الأول بالنظير فقال (الخوف والجوع) لأن البلاء إذا كان بهما كان صعباً وقاسياً ولهذا قال (بشيء من الخوف والجوع) أي أنه لو كان البلاء الذي يمس الإنسان بهما قليل جداً فسينغص عليه حياته وربما قلبها رأساً على عقب. ثم أنه تعالى أفرد لفظتي (الخوف والجوع) ولم يجمعهما كما فعل بالقسم الثاني، وهذا دليل على شدة البلاء بهما وأنهما يمسّان الفرد نفسه بشكل خاص.
أمّا القسم الثاني فذكر فيه: (نقص من الأموال والأنفس والثمرات)، وهذا يعني أنه لو نقصت هذه الأمور فستتأثر حياة الإنسان، وذكرها بنفسها وليس بنظيراتها إشارة إلى أن الأصل هو الأمان والشبع فقليل من الخوف والجوع سيكون بلاء على الإنسان، بينما (الأموال والأنفس والثمرات) فليست بلاء إن لم تقل عن حد الضرورة ولهذا قال (نقص من) فالقلة ليست بلاء وإنما النقص عن الحاجة هو البلاء بعينة. وجميع اللفظات الثلاث إشارة إلى أن تأثير هذه الثلاث يكون على المستوى الجماعي أو المجتمعي وليس على المستوى الفردي.
ولزيادة شرح هذه الحاجات الإنسانية، فنقول إن المرء يحتاج الأمان بشكل كامل؛ سواء في مسكنه أم في نومه أم في عمله أم في مستقبله وهكذا، لأن الأمان هو السعادة الغير محسوسة غالباً؛ ولأجل هذا فقد جعل الله سبحانه أول منازل السعادة هو الأمان فقال: (ألاّ تخافوا ولا تحزنوا) وقال: (أولئك الذين لهم الأمن وهم مهتدون) وقال: (الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن). فلا يجوز تهديد الفرد ولا نزع الأمان من حياته لأنه بلا هذه النعمة سيشعر بالاضطراب والخوف وستقلّ الإنتاجية لديه وربما تأثر من حوله بذلك، وإنه بلا أمان فلن يهنأ له طعام ولا شراب ولا نوم ولا أي شيء.
فإن تحقّق له الأمان فإنه سيحرص على تحقيق بقائه، ومستلزمات البقاء هي الأكل والشرب والمسكن والملبس وغير ذلك، فهذه هي الحاجات التي تلزم لكل فرد للمحافظة على حياته. وحتى تحقق هذه الأمور الحفاظ على الحياة، فلا بد أن تتّسم بقواعد ومستلزمات السلامة الصحية، فلا بدّ أن يكون الطعام صحياً والمشرب صحياً والمسكن صحياً وهكذا، فمراعاة عناصر السلامة ضروري جداً حتى لا يفقد الإنسان حياته وصحته.
وبعد ذلك يحرص المرء على كسب المال لأن احتياجاته ستتعدّى مجرد الطعام والشراب وغيرهما؛ لأنه سيصبح يفكر في المستقبل وجني المال ضروري للاستثمار لأنه بدون السيولة لن يستطيع اقتناء ضرورياته من المأكل والمشرب والمسكن ولن يستطيع شراء مستلزماته الأخرى ولن يتمكّن من توفير بعض المال لاحتياجاته المستقبلية، لهذا فإنه يبدأ بالبحث عن مصدر للرزق إما بإيجاد وظيفة ما أو باستثمار ماله في تجارة ما وهكذا، وهذا المصدر لا بدّ له من السيولة كما لا بدّ له من حُسن الإدارة والعمل على التطوير المستمر حتى لا يفقد هذا المصدر.
وبعد أن جنى المال أو على الأقل أصبح لديه المصدر لهذا المال، فإنه سيسعى للمنصب والتطور على مستوى الوظيفة أو التوسع على مستوى الاستثمار، وهذا ما عبّر عنه الحق بـ (الأنفس) وربما كانت في طيات هذه اللفظة معان متعددة فالمرض مثلاً يعدّ نقصاً في النفس والموت كذلك هو نقص في الأنفس، حتى على مستوى العمل فضعف المنصب أو الدرجة الوظيفية هو نقص في الأنفس، وكذلك قلة العملاء في التجارة يعدّ نقصاً في الأنفس، ولهذا فقد كانت لفظة (الأنفس) في الآية إشارة إلى التطور على مستوى الفرد والتوسع على مستوى الجماعة. لأن عدم التطور في الوظيفة أو التوسع في التجارة هما مؤشران كبيران على التهديد بالفقد، ولهذا فهما بلاء إن سببا نقصاً عن الحد الذي يحتاجه الإنسان للاستمرارية والدوام.
وبعد أن يتطور الإنسان ويتوسع فإنه يحتاج إلى جني الثمرات، كالأرباح والتملّك والمكاسب المختلفة والأهداف التي كان يسعى لتحقيقها، فعدم جني الثمار المرجوة نتيجة تلك الدورة الكاملة من الإنجازات المتحققة لا يعني إلا الخسارة، والخسارة بلاء للإنسان لأنها هدر للموارد سواء الفردية أم الجماعية.
لهذا لابدّ للإنسان من السعي المتواصل وعدم الكسل والتواكل وعدم الهم والتقاعس لأن جميع ذلك سلبيات لا تحقق التقدّم للأمام، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلّم: (اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدّين وقهر الرجال) والمتدبّر في الدعاء ليجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعاذ من الأمور التي يمكن لها أن تؤثر على الحاجات الإنسانية الخمسة الواردة في كتاب الله تعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..