
عجبتُ لك يا ابن آدم، تقضي نهارك باللهو واللعب، وليلك على الفراش متنعّم غير مكترث، ونار الجبّار تُسجر، والملائكة الغلاظ الشداد ينتظرون الوعد الحق، فاحذر ما يخوفك الله به، فإنك لا تطيقه
ليتك ببكاء الندم والتقصير تضيء ليلك الكالح، وليتك بآهات الحزن على ما فاتك تصنع لك فجراً يشرق بنور الحق إيذاناً بصفحة بيضاء بينك وبينه..
إنّ الظلام ليس إلاّ ظلام القلب الذي إن خرج منه نور الهدى استعمرته شياطين الضلال.. وليس الليل إلاّ ليل الغفلة الذي تعمى فيه حتى عن رؤية نفسك..
إن كنتَ تبحث عن رغد العيش فإنك تجده في اتباع الهدى ولزوم الحق، يقول تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (.) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(.) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (.) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (.) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)..
إنك لن تسلك هذا الطريق حتى تعلم أين مكانك منه، وبصدقٍ أقول لك: (إن أردت أن تعرف مكانك منه فانظر إلى مكانه منك، فقدرك عنده هو قدره في قلبك).. وما لك عنده خيرٌ وأبقى وأعظم..
عظّم مولاك أيها العبد، والجأ إليه قبل أن تلجأ إلى غيره، فهذا أسلم لك وأكرم.. إنك لن تكون من المٌقرّبين حتى تقدّمه على كلّ شيء، وتبدأ به قبل أن تبدأ بغيره، وتثق بقدرته قبل أن تنظر إلى قدرة من سواه، حينها ينظر إلى قلبك فأول ما يجد مكتوباً فيه اسمه جلّ وعلا، فأيّ كرامة تنتظر بعد ذلك؟!..
إن أردت أن تكون عارفاً بالله فلا تستحي أن تفعل أفعالهم فإنّ لك بهم أسوة، وأوّل درجات العارف أن يكون الحقّ سبحانه حاضرهم وغائبهم، لا يعرفون إلا هو، ولا يأخذون إلاّ عنه، ولا يلجأون إلاّ إليه، ولا يعتصمون إلاّ به، كلامهم عنه، ودعوتهم إليه، وعملهم له، ورضاهم به (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(.) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (.) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)..
من زهد فيه تكالبت عليه الدنيا، واستهوته الشياطين، فلا ينفكّ عن سقمٍ يصيبه، أو فقرٍ يضيّعه، أو محنٍ تشقيه، أو فتنة تذهب بعقله، فلا صاحب يساعده، ولا معين ينفعه، ولا أحد من دون الحقّ يجيبه، ثمّ لا مفرّ له من الكبير المتعال..
يقول سبحانه: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (.) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)
أشعِر نفسك دائماً الفقر إليه، فالفقر نعتك والغنى نعته (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(.) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (.) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)، فافرح بما نعتك به ولا تعتدي على ما نعت به نفسه، فمن لزم الفقر إليه أغناه ربه وقضى حاجته.. فـ (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد بما في أيدي الناس يحبّك الناس).. وارتشف رحيق الحب المُقدَّس، وكن لله عبداً، يكن لك حسيباً..
الطريق ليس صعباً، ولكنّ النفس جُبلت على حبّ الشهوات.. واعلم أنه لا أنفع للمرء في طريقه من ثلاثة: ملازمة التوبة فإنها رضى الرب، والإخلاص فإنه زينة القلب، والخشية فإنها باب القرب..
لا ترضى بالقليل الزائل، وادعُ نفسك دائماً إلى الأرفع والأنفس، وصدقاً أقول أنه لا يوجد في الكون ما هو أنفس من الحياة مع الله.. ولا تكن كأولئك الذين عبدوا الهوى، وقادتهم الشهوات، وتكالبوا على الدنيا، فلا هم ربحوا الدنيا ولا هم ربحوا الآخرة..
احذر ذلك الموقف، يوم تقف بين يديه ذليلاً محسوراً، يسألك عن الكبيرة والصغيرة، ومن يطيق ذلك أيها العبد المسكين؟!.. فأعمالك لديه مُحصاة، وأعضاؤك عليك شاهدة.. الملائكة يرتعدون يخافون غضبه، والعارفون وجلون يخشون سطوته، فمن للعالمين حينئذٍ غيره سبحانه يتجلّى لهم بلطفه ورحمته؟!..
(وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (.) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (.) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (.) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (.) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (.) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)..
خذ من كلامي واعظاً يرشدك إليه ودليلاً يدلّك عليه، واعلم أنّ الآخرة ينتظرها الكثيرون، ولكنها في قلوب العارفين مشهودة، وقيامتهم منذ عرفوه قائمة، فـ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)..
والله وليّ المؤمنين، وهو الهادي إلى الطريق الحق والصراط المستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..